نموذج جيبوتي واستراتيجية الأمن العربي.. مقال تحليلي بصحيفة الرياض السعودية

 

أشادت صحيفة الرياض السعودية في مقال بعددها الصادر  الأربعاء 2 يونيو 2021م بمهارة الدبلوماسية الجيبوتية في الحفاظ على العلاقات الدولية متعددة الأقطاب متقاطعة المصالح، داعية الدول العربية إلى الاستفادة من نموذج جيبوتي.. وفيما يلي المقال:

أهمية بناء مقاربة أوسع لمواجهة التهديدات بمنطقة البحر الأحمر

نموذج جيبوتي  واستراتيجية الأمن العربي

 

لطالما كان التاريخ والجُغرافية يقودان زِمام مُسببات ودواعي الحرب والسلام على مر العصور والأزمان ومن يجهل بالتاريخ لن يستطيع أن يتعامل بدهاء مع الجُغرافية، إن الحظوظ على هذهِ الأرض مُمكن إدراكها ولكن لن نُدركها دون أن نملُك رؤية بعيدة المدى، لا منفعة تكاد لا تتجاوز العقد من أعمارنا.

كذلك الأمر الذي قاد منطقة القرن الإفريقي لتكون محط أنظار مُعظم الدول العُظمى، إن الجُغرافية هي القادرة على أن تُخضِع العَظمة بقصد المنفعة وتحقيق المصلحة، خاصةً في جيبوتي وعلى الرُغم من أن التاريخ يتحدث دوماً دون أن يُنصت له الكثير، حيث يُخبرنا أن الدول العُظمى عبر التاريخ والقرون السالفة قد أسهم تواجدُها في منطقة القرن الإفريقي إلى صياغة وتشكيل هذا الإقليم المضطرب وجعله كالقُنبلة الموقوتة.

وعلى الرُغم من أنه تم إعادة صياغة خريطة منطقة القرن الإفريقي مرة أخرى بعد انتهاء الحرب الباردة، إلاّ أن النتيجة كانت نفسها، لقد كانت الصياغة عبارة عن تُرجمان لحقيقة سياسات الهيمنة والنفوذ للقوى الأجنبية الفاعلة في المنطقة، وما يُهمنا أن جيبوتي البلد الصغيرة "مساحةً" وقليلة الإمكانيات "سابقاً" كيف تعاملت مع هذه الهيمنة وكيف استطاعت أن تجعل من الجُغرافية قوةً لها لا عليها، وكيف ضمت العدد الكبير من القواعد العسكرية الأجنبية والتي تُمثل أكثر من مُعسكر وأكثر من قُطب يتقاطع كلا مع الآخر في الرؤية والمصالح، لا بل ويُعد كل قُطب منهما مُنافساً للآخر ولعل أبرزها الولايات المتحدة الأميركية والصين.

والواقع أن هذا التنافُس بين القوى الدولية في منطقة القرن الإفريقي لم يُجلب معه باقةً من الزهور إنما باقةً من حلقات الصِراع وتقسيمُها إلى مُعسكرات أجنبية مُختلفة ما عدا جيبوتي والتي كما ذكرنا آنفاً أنها الدولة الأكثر نصيباً لتواجد القواعد العسكرية على أراضيها والتي جمعت جميع الأقطاب المُتضادة. خاصةً أميركا والصين وهما الأكثر شراسة في التنافُس بلا شك في القارة الإفريقية، خاصةً وأن الاستراتيجية الصينية في منطقة القرن الإفريقي قد تغلغلت اقتصادياً بها واستطاعت أن تُعزز ذلك من خلال ربطها بمشروع "الحزام والطريق" والذي يستهدف إقامة ممر تجاري وبحري يمر من باب المندب.

والواقع أن الوجود الأميركي كذلك لا يقُل أهميةً وقوةً عن التواجد الصيني على الشريط الاستراتيجي بين الساحل والقرن الإفريقي فإن العلاقات بين أميركا وجيبوتي في تنام مستمر؛ مما يُبرهن لنا مهارة الدبلوماسية الجيبوتية تجاه الحفاظ على العلاقات الدولية المُتعددة الأقطاب والمُتقاطعة المصالح. وعلى الرُغم من أننا قد نرى هذا التنافس الدولي والتواجد للدول العُظمى بشكل عام في القرن الإفريقي وبشكل خاص في جيبوتي قد يقود المنطقة إلى بؤرة صِراع طويل المدى عميق الصدع، إلاّ أن الدول العُظمى في الوقت الراهن تُحافظ على أمن وهدوء المنطقة وذلك لتأمين مصالحها، فمن مصلحة الجميع أن تكن هذهِ المنطقة آمنة ولكن ما إن كانت المنفعة لقُطب واحد فقط في المنطقة واختل توازن المصالح في أي لحظة، ربما يكون ذلك في غير مصلحة النظام الإقليمي العربي ويُنذر بوجود تهديدات خطيرة لمنظومة الأمن القومي العربي. وقد يرى بعض المُراقبين الدوليين أن هناك عوامل عديدة من شأنها أن تحكم وتيرة هذا التنافس ومدى حدته أهمها القوّة العسكرية وهي عنصر فعال في تحديد مصير التنافس على النفط والاقتصاد بشكل عام، إلاّ أنه ليس بالضرورة أن تتواجه الدول العُظمى بشكل مُباشر على الأراضي الإفريقية، وقد تكون الحرب بالوكالة هي الخيار الأمثل لها، خاصةً وأن الدول العُظمى لديها مصنع خاص وعقل فذ ومقومات جليلة في صناعة المُرتزقة والميليشيات المُسلّحة في المنطقة بكل يسر وسهولة. ولكي نُجيب عن التساؤلات التي طُرِحت أعلاه عن كيفية تعامُل جيبوتي مع جميع الأقطاب المُتضادة، فقد بذلُت المزيد من المرونة والتعامُل الذكي وطالما لعبت "دور الوسيط" حتى تُعزز من دورها الفاعل إقليميا ثم دولياً، حيث أصبحت بمثابة الداعم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً لمُختلف الدول العُظمى وكذلك إقليمياً ويُعد ذلك دهاءً دبلوماسياً يُحسب لجيبوتي، وكل ذلك يقودنا لتساؤل بغاية الأهمية.. كيف يُمكن للدول العربية والفاعلة إقليميا أن تستفيد من الشقيقة جيبوتي وموقعها الجُغرافي الاستراتيجي والبالغ الأهمية! وأن تحوّل هذهِ الميزة الجُغرافية إلى ميزة فارقة في الجُغرافية العربية ككُل! فمن غير المنطق والواقعية ألاّ تُبذل العديد من الجهود الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية وكذلك العسكرية نحو البلد العربي "جيبوتي".

في رأينا أولاً يجب أن تتحد المصالح المُشتركة بين أبرز الدول العربية ذات الثُقل حتى تستطيع المُحافظة على الأمن القومي العربي، فوجود مصالح متقاطعة لا يُعزز إطلاقاً من الأمن القومي العربي وقد لوحِظ ذلك خلال المواجهة مع إيران، وكيف كان الانقسام العربي قد ساهم بطريقة مباشرة إلى هدم كينونة بعض العواصم العربية وفتح فصلاً من الشتات العربي حول القارات. يجب الاستفادة من هذهِ الميزة التي حظيت بها جيبوتي بما يعود بالنفع على الأشقاء في جيبوتي والأمن القومي العربي ككُل. وهُناك بوادر لُمِست مؤخراً كزيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لجيبوتي والتي تُعد زيارة بالغة الأهمية بحسب مُراقبين دوليين ونراها خطوة ذكية من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تصُب في مصلحة البلدين، ونأمل في المُستقبل القريب تكثيف الجهود والزيارات الدبلوماسية والاتفاقيات من بقية الدول العربية الفاعلة وذلك لبناء استراتيجية أوسع وأشمل لمواجهة أي تهديدات مُستقبلية خاصةً في منطقة البحر الأحمر، والذي من شأنُه أن يُهدد الأمن القومي العربي أجمع في إطار ارتفاع وتيرة التنافُس الدولي في منطقة القرن الإفريقي.

 

You may also like...